لم تعُد الحرب مجرّد حربٍ تقليدية واضحة المعالم والأدوات والميدان، بلْ أصبحَت مزيجاً من الأدوات والأساليب والمفاهيم، وأصبَح التّقويض من الداخل الوسيلة الأنجَح لهزيمة الخصوم. يَعتمد مفهوم الحرب الهجينة بدايةً على القدرة على تحقيق الأهداف من خلال دمْج وسائِل عسكرية تقليدية وغير تقليدية ، بطريقةٍ متزامنةٍ، لاستغْلال نقاطِ ضعْف الخصم وتحقيقِ تأثيراتٍ متتالية تحُول دون إمكانيّته الردّ على مصادِر هذه الهجمات، لعدم إستطاعَته توجيه الاتّهامات والإسناد، لما يَشوب العملية من غُموض.
ومنذُ أن صاغ فرانك هوفمان(Frank Hoffman) مصطلح “الحرب الهجينة” عام 2007 ، كُتِب العديد من المقالات والكتُب حوْل هذا الموضوع من مَنظور الدّراسات العسكرية والعلاقات الدولية. وركّزت هذه الأفكار على العمَليات البرّية، لكنّنا بدأنا نراها تنْتشر في المجال البحري.
للحرب الهجينة، أكانت برّية أم بحرية، أدوات تُستخدم لتحقيق غايات المستخدِم ضدّ خصْمه. ويتمّ التّركيز على مصادِر وأنماط متعدّدة من الهُجوم عبر استخْدام ودمْج المدَني بالعسكري، بالإضافة إلى اسْتخدام العناصر الإجتماعية كافة للقيام بأعمالٍ تخريبيةٍ؛ أي دمْج وإستخدام العُنصر السياسي والدبلوماسي والاجتماعي والتّقني والفنّي والنّشاط المالي والسيبراني، كما المعلومات والأنظمة، وكلّ ما يُمكنه زعْزعة أمْن وإستقرار الدولة الهدف. تتمثّل إحدى المسائِل الرئيسية المطروحة في البحْث الحالي بعدم وجود فهمٍ واضحٍ لكيفية تطبيق قانون البحار في الحرب الهجينة، علماً أن الآثار الناجمة عن هذه الحرب في المجال البحري تستحقّ النّظر، لا سيما أنه لا يكفي تحليل التّهديدات، ولكن المهمّ توفير أدَوات ملموسةٍ لمواجَهتها. فما هي الحرب الهجينة البحرية وما هي أدواتها؟ أينَ يقَع مضيق ملقا؟ وهل يُمكن للدول الساحلية للمضيق، أو أي دولة أخرى، إعاقَة حركة المُرور فيه وقطْع الإمدادات النفطية عن الصين ضمْن سياسة إحتواءٍ جديدةٍ؟
إن جميع تعريفات الحرب الهجينة تَميل إلى التّأكيد على أنّها “مزيجٌ من مناهج مُنتظمة وغير مُنتظمة للحرب بطرقٍ جديدةٍ وغير متوقّعة “. كما تمّ تعريفها بأنّها لذلك، ومع تعدّد التّعريفات سنَعتمد في الدراسة الحاضرة على تعريف الجنرال فرانك هوفمان (Frank Hoffman) الذي يُعتبر مُؤسس مفهوم الحرب الهجينة قائلاً إنها “مزيج مصمّم خصّيصًا من الأسلحة التقليدية والتكتيكات غير النظامية والإرهاب والسّلوك الإجرامي في الوقتِ نفسه وفضاء المعركة ذاته لتَحقيق أهدافه السياسية ” ، كونه التّعريف الأشمَل والأوضَح.
تَختلف وجهات النّظر حول الحرب الهجينة بشكلٍ عام لكن الأدَوات المُستخدمة فيها، المتّفق عليها على نطاقٍ واسع هي التالية:
• إسْتخدام “جنود” بزيّ رسمي غير مميّز يُشار إليهم أحيانًا بإسم “الرجال الخضر الصغار” (little Green men) ، ممّا يجعل أفعالهم غامضَة ولا يتْبعون لأيّ دولة بمُوجب القانون الدولي.
• الاستخدام المُتزايد لحرب المعلومات ، والدّعاية ، وإنتشار الشائعات المغرضة والمثيرة للفتن لزعزعة إستقرار المنطقة المستهدَفة.
• حضُور مُكثّف على شبكات التواصل الإجتماعي ممّا يؤدي إلى سُهولة إنتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المضلّلة، وإنشاء جيوش إلكْترونية تتحرّك حسَب التّعليمات.
• إسْتخدام أساليب المتمرّدين بما في ذلك السيارات المُفخّخة والتّعذيب والخَطف لتَخويف السكان وترويعهم.
• حملة سيبرانية معقّدة لاسْتهداف بيانات الدولة واخْتراق نُظم المعلومات وكلّ ما ينال من أمن الدولة المعلوماتي ويُفيد المستهدِف.
تتعدَّد الأمثلة الدّالة على الحرب الهجينة البحرية، منها بناء جِسر مضيق كيرتش (Kerch Strait) في البحر الأسود، كما تمديد خطوط أنابيب نورد ستريم تحت الأرض في بحر البَلطيق ، إضافةً إلى إنشاء الجزر السبع الاصطناعية في بحر الصين الجنوبي. أضِف إلى ذلك موضوع تأمين ناقلات النفط العابرة به خاصةً تلك المتوجّهة إلى الصين، من قِبل قوات البحرية الصينية في مضيق ملقا، موضوع دراستنا الحاضرة، وهو مضيق يقَع بين دولٍ ثلاث وهي ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، تُديره الدول الساحلية الثلاث. تحوّل مع الوقت إلى نقطة حسّاسة صينية بسبب عبور 90% من واردات الصين النّفطية عَبره، مما جعله نُقطة ضعفٍ صينية حساسة، حيثُ أن أيّ إعاقة لحركة المُرور فيه تنعَكس على الإقتصاد الصيني والعالمي حتماً.
لذا، قد تنظُر الدول الساحلية لأي ممرٍّ مائي ، وإلى أيّ من هذه المشاريع المذكورة سابقاً، في المياه المجاورة لها على أنّها تَهديد لأمْنها القومي. فمثلاً لدى فنلندا مَخاوف مُشتركة على نطاق واسع، مع دول البلطيق المجاورة، من أن روسيا يُمكن أن تستخدم قواتها المسلّحة أثناء حالة النّزاع للسّيطرة على خطوطِ أنابيب نورد ستريم، التي تعبُر مناطق البحر الفنلندية والسويدية والدنماركية. ولدى أوكرانيا أيضاً مخاوِف مماثلة بشأن جسر مضيق كيرتش. كما أُثيرت مَخاوف بعض الدول المجاورة والبعيدة من الجزر الاصطناعية السبع في بحر الصين الجنوبي. وخَلقت هذه المشاريع تحدّيات جديدة لحقوق الملاحة في المناطق البحرية المعنية وبالتالي لتطبيق قانون البحار.
وبتركيزنا في دراستنا الحاضرة على مضيق ملقا، كنموذجٍ ينطبِق على الأحداث الجارية فيه، مفهوم الحرب الهجينة البحرية. فقد أعْلنت لجنة الحرب المُشتركة (JWC) في تحقيق صادر عنها، في 20 حزيران/يونيو عن سوق التأمين في لويدز، أنَّ مضيق ملقا و 20 منطقة أخرى مُعرضة لخطر “الحرب والإضرابات والإرهاب والمخاطر ذات الصلة”. جاء قرار JWC في أعقاب تقييمٍ كبيرٍ من قِبل مجموعة الاستشارات الأمنية Aegis Defense Services (ADS). وباتَت المنطقة التي تُعتبر معرّضة للخطر ممتدّة على كامل مسافة المضيق وتشمل الموانئ الإندونيسية الرئيسية مثل Dumai و Belawan في سومطرة. وصنّفتْ القائمة المضيق مع مناطق أخرى مثل الصومال ونيجيريا على أنها “تهديداتٍ أمنيةٍ للمِلاحة”.
نتيجةً لذلك ، رفَعت شركات التّأمين أقساط التّأمين للمَناطق “عاليةِ الخطورة” ، بما في ذلك على السّفن التي تمرّ عبر مضيق ملقا. مما شكّل ضربة لمجال الشّحن ، التي تُعاني بالفعل من تَزايد تكاليف التَشغيل بسبب الزيادة الحادّة في أسعارِ النّفط. وقد قوبِل إعلان JWC بانتقاداتٍ من العاملين في قطاع الشحن والدول السّاحلية، وكذلك المكتب البحري الدولي (IMB) . حيثُ كانت ردود الفعل السّلبية التي وردَت في تقرير Aegis Threat Assessment والذي جمَع بين الاهتمامات الأمنية المُختلفة مثل القرصنة ، والسّرقة في البحر ، والاختطاف من أجل الفدية، والحرب الأهلية ، واحتِمال الإرهاب البحري. وقد طالبت الدول الساحلية الثلاث ، ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، ومجتمع النّقل البحري بمراجعة التّقرير لِما كان له من تداعياتٍ على قطاع النّقل البحري.
لطالما كانَ مضيق ملقا مكانًا جذّاباً لعمليات القراصنة. ومع تَزايد حساسية قضية الأمْن في المضيق . حيث يُعدّ الممرّ كثاني أكثر ممرّات الشحن ازْدحامًا في العالم. ويمرّ عبْره أكثر من 55000 سفينة. بالنّظر إلى هذا الواقع ، بدأت الدول الساحلية الثّلاث جُهوداً مكثَّفة لتَعزيز الأمن في المضيق. أحَد النتائج الجيدة التي نجَمت عن تقرير لجنة الحرب المُشتركة JWC، هو أنَّه أعادَ انْتباه الدول الساحلية الثلاث إلى القضية المركزية المتعلّقة بتأمين الممرّ البحري. وقد اسْتجابت الدول الساحلية باتّخاذ العديد من المبادرات الجديدة لجعل الملاحة أكثّر أمانًا في المضيق. من هذه الإجراءات كان اسْتهداف الدّوريات الثُّلاثية المنَسّقة التي تشارك فيها القوات البحرية الإندونيسية، بالتّعاون مع سينغافورة وماليزيا منذ 20 تموز/يوليو 2004 باستهداف القرصنة البحرية والإرهاب البحري. وقد أثمرت هذه الجهود عن انخفاض هجمات القرصنة بنسبة 25 % منذ بدئها.
على المقلَب الآخر، ووفقًا للـمكْتب البحري الدولي، تمّ تسجيل أربع هجمات للقراصنة فقط في المضيق بين حزيران/يناير وآذار/مارس من هذا العام – بانْخفاض بنِسبة 50 % عن الهجمات الثّماني خلال نفس الفترة من العام الماضي. وقد أعلن نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع الماليزي في المؤتمر الأمني الرابع لحوار شانغريلا الذي اخْتتم أعمَاله مؤخّرًا في سنغافورة ، دعوة مفاجِئة للبَحرية الملَكية التايلاندية للمشاركة في الدوريات المنَسّقة في مضيق ملقا. كما اقْترح خُطّة “عيون في السماء” مع طائرات مراقبة أجْنبية للمساعدة في مُكافحة القرصَنة في المضيق. وألمَح إلى أنَّ ماليزيا لا تُعارض دور دولي في مراقبة الممرّ المائي، وستنظُر في السماح لدول الطائرات البَحرية مثل الولايات المتحدة واليابان وأستراليا باسْتخدام مجالها الجوي المحلّي بشرط تشغيل وحدات التّحكم والشاشات بواسطة السّواحل الثلاثة.
تُعدّ هذه النّظرة خروجًا عن الخطاب السابق عندما كانت ماليزيا وإندونيسيا متردّدين للغاية بشأن أي تدخّل أجنبي في المضيق. وفي تطوّر جديد لافت ، تحوّل بعض مالكي السفن إلى تقديم خدمات مرافقة مسلّحة خاصّةً لحماية السّفن التي تعبُر مضيق ملقا. يمكن لهذه السفن الخاصّة المُجهّزة بالدروع وبـ”مرتزقة من النخبة” أن تكون بمثابة رادع قوي ضدّ القراصنة.
في المحصّلة، يُعدّ مضيق ملقا ممراً تجاريًا رئيسيًا يمرّ به ما يُقارب من ثُلث حمولة العالم ونِصف شحنات النفط العالمية. ومع الاقتصادات الآسيوية المُتنامية عموماً والطّلب المُتزايد لإمدادات الطاقة من الصين خصوصاً، فإنَّ الأهمّية الاستراتيجية للممرّ المائي تزداد، وترتَفع معها التّكاليف الإضافية بسبب زيادة أقساط الشّحن والتأمين، مما سينعكِس على إقتصادات الدول الساحلية وأيضًا على أصحاب المصلحة الآخرين كالعاملين في مجال الشّحن البحري.
في الخُلاصة، إنَّ الحرب الهجينة قديمة قِدم القِتال نفسه، لكن ما تغيّر حقيقةً على مُستوى الحُروب هو مستوى الجُهد المبذول من الدول الكبيرة والصّغيرة على حدّ السّواء، نتيجةً للتطوّر الإلكتروني وإنعكاسِه على المجال العسكري لناحية تطوّر الجيوش في العديد والعِتاد، والميل إلى إسْتخدام الحرب الهجينة لما فيها من مزايا تكتيكية واستراتيجية تمْنَحها للمستهدِف، مع قُدرة عالية على الإنكار وعدَم إمكانية الإسناد لما يشُوب العملية من غُموض. في الوقتِ نفسه، ومن الناحية القانونية، يجب على الدول مُراجعة قوانينها المحلية، حسَب الاقتضاء، للتأكّد من أنَّ الأحكام الرئيسية المتعلّقة بإعلان حالة الطوارئ أو الحرب والحِفاظ على النّظام في المجال البَحري مرِناً بما يكفي لمواجهة التّحديات الديناميكية للحرب الهجينة.

إعداد: سارة أمين يونس طالبة في المعهد العالي للدكتوراه في العلوم السياسية والإدارية